وما الغاية من تكليفنا هذه العبادة؟ هل يعود عليه ـ سبحانه ـ نفع من عبادتنا له، وخشوعنا لوجهه؟ ووقوفنا ببابه، وانقيادنا لأمره ونهيه جل شأنه؟ أم النفع يعود علينا نحن المخلوقين؟ وما حقيقة هذا النفع إن كان؟ أم الهدف هو مجرد الأمر من الله والطاعة منا؟
والجواب: أنه ـ تبارك اسمه ـ لا تنفعه عبادة من عبده، ولا يضره إعراض من صد عنه، فهو الغني ونحن الفقراء إليه
فقد قال تعالى: (يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد)
وقال عز وجل في الحديث القدسي: "يا عبادي إنكم لم تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما ذاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا".
وإذا كان الله سبحانه له هذا الغنى المطلق فلماذا إذن كلف عباده أن يعبدوه ويطيعوه؟
العبادة غذاء الروح
فالإنسان ليس هو هذا الغلاف المادي الذي نحسه ونراه، والذي يطلب حظه من طعام الأرض وشرابها، ولكن حقيقة الإنسان في ذلك الجوهر النفيس الذي به صار إنسانا مكرما سيدا على ما فوق الأرض من كائنات. ذلك الجوهر هو الروح، الذي يجد حياته وزكاته في مناجاة الله عز وجل، وعبادة الله هي التي توفر لهذا الروح غذاءه ونماءه، وتمده بمدد يومي لا ينفذ ولا يغيض.
إن المؤمن ليجد في عبادة ربه في ساعة الشدة، سكينة لنفسه، وأنسا لوحشته، وانشراحا لصدره، وتخفيفا عن كاهله، كما قال الله تعالى لرسوله: "ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون، فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين" فدله على العبادة إذا ضاق صدره بأقاويل المتقولين، وأكاذيب المفترين.
العبودية لله سبيل الحرية
يقول ابن تيمية:
"وكل من استكبر عن عبادة الله لا بد أن يعبد غيره، فإن الإنسان حساس يتحرك بالإرادة. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أصدق الأسماء حارث وهمام" فالحارث: الكاسب الفاعل، والهمام: فعال من الهم، والهم أول الإرادة، فالإنسان له إرادة دائما. وكل إرادة فلا بد لها من مراد تنتهي إليه، فلا بد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته، فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته، بل استكبر عن ذلك، فلا بد أن يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله، فيكون عبدا لذلك المراد المحبوب: إما المال، وإما الجاه، وإما الصور، وإما يتخذه إلها من دون الله كالشمس والقمر والكواكب والأوثان، وقبور الأنبياء والصالحين، أو من الملائكة والأنبياء الذين يتخذهم أربابا، أو غير ذلك مما عبد من دون الله.
العبادة ابتلاء إلهي يصقل الإنسان
إن هذه الحياة الدنيا لا تعطي حصادها إلا لمن يزرعون، ولا جناها إلا لمن يغرسون، ولا ينال المرء فيها ما يحب إلا بصبره على ما يكره، ولا يتحقق له أمل يصبو إليه إلا بعد أن يجتاز امتحانات عسيرة، ويتحمل مشقات شديدة، ولذلك لا يطمع في إدراك المعالي وتحقيق الآمال الكبيرة إلا أولو العزم وأصحاب النفوس الكبيرة، وفي هذا يقول المتنبي:
ذريني أنل ما لا ينال من العلا فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
تريدين إدراك المعالي رخيصة ولا بد دون الشهد من إبر النحل!
هذا شأن حياتنا هذه القصيرة، فكيف بحياة الخلود؟ أيريد الإنسان أن يحظى بنعيمها ورضوان الله فيها، ويسعد بالنظر إلى وجهه الكريم، دون جهد ولا ابتلاء ودون أن يسعى لها سعيها؟ إذن يستوي القاعدون والمجاهدون يستوي العيبالى والعاملون، يستوي الطالحون والصالحون، وهم في عدالة الله لا يستوون!
العبادة حق الله على عباده
إنه الله الذي شهدت بربوبيته الفطر السليمة، وأقرت بوجوده وكماله ووحدانيته العقول النيرة (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون؟ سيقولون لله، قل أفلا تذكرون؟ قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم؟ سيقولون لله، قل أفلا تتقون؟ قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون؟ سيقولون لله، قل فأنى تسحرون).
(قل: من يرزقكم من السماء والأرض؟ أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر؟ فسيقولون: الله، فقل، أفلا تتقون؟ فذلكم الله ربكم الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال، فأنى تصرفون؟).
فلا عجب أن يكون لهذا الخالق المنعم حق العبادة والاستعانة به والابتهال إليه، والوقوف ببابه الكريم موقف الضراعة والتسليم والانقياد (سبح اسم ربك الأعلى، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، والذي أخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى).
العبادة طلبا للثواب وخوفا من العقاب
طمعا في ثوابه وخوفا من عقابه؟ وبعبارة أخرى هل يجوز أن يعبد الله: طلبا لجنته، وهربا من ناره؟
لقد شنع الصوفية على من عبد الله بهذا القصد، وقالوا: لا ينبغي للعابد أن يعبد الله ويقوم بأمره ونهيه، خوفا من عقابه أو طمعا في ثوابه، فإن مثل هذا العابد واقف مع غرضه وحظ نفسه، ومحبة الله حقا تأبى ذلك وتنافيه، فإن المحب لا حظ له مع محبوبه، فوقوفه مع حظه علة في محبته، كما أن طمعه في الثواب تطلع إلى أنه يستحق بعمله على الله تعالى أجرة، وفي هذا آفتان: تطلعه إلى الأجرة، وإحسان ظنه بعمله، ولا يخلصه من ذلك إلا تجريد العبادة والقيام بالأمر والنهي من كل علة، بل يقوم به تعظيما للآمر الناهي، وأنه أهل أن يعبد وتعظم حرماته، فهو يستحق العبادة والتعظيم والإجلال لذاته، كما في الأثر الإلهي: "لو لم أخلق جنة ولا نارا، أما كنت أهلا أن أعبد؟
ومن علماء المسلمين من رد هذا الكلام، واعتبره من شطحات القوم ورعوناتهم، ولم ير أي حرج أو نقص في عبادة الله خوفا وطمعا، ورغبا ورهبا، واحتج هؤلاء العلماء بأحوال الأنبياء والرسل والصديقين والصالحين، ودعائهم والثناء عليهم ـ في كتاب الله ـ بخوفهم من النار، ورجائهم للجنة. كما قال تعالى في خواص عباده الذين عبدهم المشركون ودعوهم من دون الله أو مع الله: (أولئك الذين يدعون، يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محذورا).
الإمام ابن القيم وقف موقفا وسطا بين الصوفية وبين من رد عليهم وخطأهم من علماء الأمة فقال، بعد أن حكى قول أولئك ورد هؤلاء:
"والتحقيق أن يقال: الجنة ليست اسما لمجرد الأشجار والفواكه، والطعام والشراب، والحور العين، والأنهار والقصور، وأكثر الناس يغلطون في مسمى الجنة، فإن الجنة اسم لدار النعيم المطلق الكامل. ومن أعظم نعيم الجنة: التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم، وسماع كلامه، وقرة العين بالقرب منه وبرضوانه، فلا نسبة للذة ما فيها من المأكول والمشروب والملبوس والصور إلى هذه اللذة أبدا. فأيسر يسير من رضوانه أكبر من الجنان وما فيها من ذلك